بالإضافة إلى الحقيبة المعتادة التي نتأبطها إثر كل ملتقى، المدموغة بشعار المناسبة، والمعبأة بالنشرات المدرسية والتعريفية، خرجنا من الجزائر بحيرة مضاعفة، وبحب أكبر، وبإشفاق أكثر على تلك المخلوقات المتحفزة للخروج من لحظة تاريخية حرجة، وبرغبة أكيدة أيضاً للعودة إلى أرض مخبأة داخل تعاريج من الأسرار المهملة، فهذه الأرض التي كنا نعتقد أننا نجهل بعض خباياها التاريخية والجغرافية والثقافية، يتبين كلما حاولنا استيعابها أننا لا نعرفها أصلا،ً لأننا لم نُحدث من التماس مع ناسها ما يكفي للتعرف على حقيقتها، إذ لا نملك إزاءها إلا شحنة من العواطف اكتسبناها من فرح تحرُّرها من نير الاحتلال الفرنسي والعودة إلى حواضنها العربية الإسلامية. وقد تربى هذا الفرح في قلوبنا غريزياً بدون أن نبذل أي محاولة جادة لمفهمته أو تصعيده إلى حد الوعي بمعنى الأرض المقاوِّمة، فيما لم يساعدنا الجزائري نفسه على استظهار صورته كمناضل استرد آدميته بذات القدر الذي حرر به أرضه.
الجزائر كنز من الجمال المخبوء تحت طيات من النسيان والتجهيل والانشغال باليومي والسياسي، أو بمعنى أدق، الانحراف في ترتيب الأولويات الإنسانية، والانصراف اللامبرر عن تأمل الغنى الثقافي الذي يمكن أن يكون حافزاً سياحياً، حيث ننتبه على بلاغة هذا الدرس الجمالي المنسي مثلاً عند زيارة ما تبقى من آثار الإمبراطورية الرومانية في (تيبازة) وبالتحديد في المكان الذي كان يلوذ به البير كامي ليستلهم روح الإبداع، عندما كان يسترخي على الصخور المطلة على زرقة المتوسط، قبالة جبل (شنوة) الموحي بالكثير من الدلالات كما يبدو من مظهره الذي يشبهونه بجسد المرأة الحامل المضطجعة على ظهرها، ليكتب هناك طاعونه، وغريبه، وإنسانه المتمرد، كما خُلد ذلك الأثر بنصب صغير حُفرت عليه عبارة ذات دلالة، مقدودة من إحدى رواياته (هنا عرفت المجد، ومعنى الحب) أو هكذا تم تخليد ذلك الممر الآخاذ في الذاكرة في حواضن طبيعة سخية وجغرافيا خلابة.
سرفانتس أيضاً، خلف وراءه في الجزائر أثراً مادياً فريداً لا يخلو من القيمة الرمزية، فصاحب الرواية الأشهر (دون كيخوت) كتب البدايات الأولى لعمله الروائي الخالد – كما يقال – داخل مغارة لجأ إليها بعد محاولته الفرار من الأسر للمرة الثانية بعد إلقاء القبض عليه مع شقيقه عندما كانا يعملان على ظهر سفينة اسمها (سول). وقد تكفلت شركة النفط (ريبسول) بترميم المغارة والإبقاء على طابعها التاريخي والحفاظ على تداعيات معناها الرمزي، بتخليد الأثر المادي ذاته الذي يجري الآن موضعته تحت ما يمكن تسميته بالسياحة الثقافية ضمن مشهديات ومواقع وآثار مادية ومعنوية قد يدخل فيها أيضاً فندق (السان جورج) الذي قضى فيه كارل ماركس حقبة من حياته ليتعافى من نوبة كآبة أو أزمة صدرية، حسب اختلاف الروايات، وهو نفس الفندق الذي أوى اليه فريد الأطرش، بعد أن أغضب الجزائريين عندما توجه بالشكر لسلطات الاحتلال الفرنسي على إتاحتها الفرصة له للغناء في الجزائر جارحاً الجزائرين بهفوة لا واعية.
كما سامح الجزائريون أحمد شوقي الذي لم يستوعب قساوة السجان الفرانكفوني لدرجة أنه عيّرهم بلسانهم المسلوب بقوله (حتى ماسح الأحذية يتحدث الفرنسية) تجاوزا سقطة المطرب الذي هادن عدوهم، وصاروا يتندرون على تلك الحكاية الموجعة لضميرهم. وقد تم تناقلها بارتباكات سردية متناقضة حد نفيها، رغم أنه عاقبهم في بساط ريحه الشهير، فقفز من مراكش إلى تونس، وتنّقل في معظم الأقطار العربية بدون أن يأتي على ذكر الجزائر، وكأنه أراد بذلك التجاهل أن يسلخهم من عروبتهم، الأمر الذي أثار الشهيد علي معاشي لدرجة أنه أنجز أغنية مضادة عدد فيها كل مآثر الجزائر الجغرافية وكانت تلك الأغنية سبباً كافياً – من وجهة نظر الاحتلال – لقتله. وإذا كانوا قد غفروا لمن أساء لهم، إلا أنهم على درجة من الوفاء لكل من وقف معهم ضد المحتل، مهما كان إسهامه متواضعاً، كما يمكن تلمس بعض ذلك الوفاء عند المرور والوقوف بساحة (موريس أودان) التي حملت اسمه الفرنسي إلى جانب أسماء الشوارع المعنونة بأسماء طابور طويل من شهداء الجزائر بدون أي عقد أو حساسية عرقية.
كنا نظن أن معركة التحرير قد أنجزت تماماً، وأن مرحلة التسيير الذاتي تتواصل بوتيرة مطمئنة، ولكن يبدو أن الجزائري ما زال يخوض حربه الطويلة للتخلص من آثار احتلال استمر اثنتان وثلاثون ومائة عام، فاليومي بالنسبة للجزائري هو النضالي، ولا يمكن أن تقف مع جزائري بدون أن يُحدّثك عن مفصل نضالي، أو حالة مقاومة، أو عن شهيد، حيث يتغلغل الفعل المقاوم في التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية ويتجاوز الميدان الأرضي إلى المشاعر، وهنا يكمن سر انفعال الجزائري الدائم، فتلك هي المرجعية السوسيولوجية المهيمنة، حتى توقيت الطبعة الثالثة لعكاظية الشعر إنما تم اختياره، أو توظيفه بمعنى أدق، ليوافق يوم التاسع عشر من مايو، للتذكير بعيد الطالب، يوم قرر المثقفون الجزائريون من طلبة الجامعات والثانويات ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بالثورة لتكذيب دعاوى الاحتلال، ودحض أخدوعاته عن كون الثورة الجزائرية مجرد هوجة طارئة لشباب عاطل عن الحياة لا مستقبل له، وهو الأمر الذي يفسر كثرة الحديث حتى اليوم عن (الفرنّسة) وعن ثقافة فرانكفونية متوحشة، تحاول تعطيل مسيرة الإنسان الجزائري نحو عروبته وإسلامه، وإحداث الفتنة بين العرب والبربر، حيث يحدثونك عن عدو شرس، تحس بآثاره المدمّرة، وتستشعر نواياه ولكنك لا تستطيع القبض على شيء من تمثّلاته المادية.
هذا الجدل الحضاري الذي ينم عن تموضع الجزائري على حافة صراع وجودي على درجة من الحدة، لا ترتطم به من مساجلاتك مع النخب الجزائرية التي تنتج الخطاب الثقافي وتتعاطى متعالياته التنظيرية على المنابر وحسب، بل من التماس المباشر مع الجمهور الجزائري عموماً، حيث تلاحظ مثلاً أن الجرعة الزائدة عن الحد من الإسلاموية المناهضة للفرانكفونية هي التي أنتجت ثقافة عذاب القبر، إذا ما أجريت مقاربة ولو عابرة لتاريخانية فكر التطرف، فسائق (الطاكسي)، حسب نطقهم الملذوذ لحرف التاء، يصحح لك معلوماتك المدرسية المتداولة إعلامياً بغضبة ودودة، ويصر على تصويب حتى عدادات الثورة الجزائرية، فعندما تحدّثه عن احترامك لطهارة أرض تضم مليون شهيد، يخبرك من وراء لغة فرنسية يختنق باغترابات ألفاظها ومخارج حروفها، وكأنه ينشنق بها، عن أرقام أغفلتها الثورة، كما يحاول باعتداد عروبي إسلاموي، أن يضيف إلى العدد ثلاثمائة وخمسين من الصحابة الذين ينامون على هذه الأرض التي يراد لها أن تكون ضريحاً للأولياء، ثم يغريك، بما يشبه الأمر بالتحديق في ملامحه لتتأكد أنه سليل ذلك الفارس الأصيل عقبة بن نافع، كما يحاول الاستنساب له بمنتهى الحماسة كحتمية بيلوجية.
كل يوم يمر عليك في الجزائر تشعر أن يداً تمتد إليك مستغيثة تدعوك للبقاء والتجادل والتواصل، فكل من تصادفه من المتنفّذين يسألك السؤال الذي يشبه التعويذة: كيف نصل إليكم؟ وهو ذات السؤال الذي يباغتك به الناس في الشارع بتنويعات مختلفة. كلهم يريدون أن يعرفوا انطباعك عن بلادهم وثقافتهم وناسهم. يريدون الاطمئنان – ربما – على أن لديهم كائنات جديرة بالحياة، أو هو نوع من إثارة فضول (الآخر) ناحيتهم. يريدون التيقّن من كون أرضهم مغرية وجاذبة للآخر بكل تمثّلاته، وربما يتأتى هذا الإلحاح من إحساسهم المرّ والعميق بالتهميش. ولذلك يغمرونك بالحب، ويتبرعون بشرح تفاصيل يومياتهم ليزدادوا يقينا بجدوى مكانهم. أجل فسؤال المكان يثير في نفوسهم القلق الدائم والمحيّر، حيث المفارقة العجيبة الحاضرة بقوة حين يتعلق الأمر بالإبداع، إذ يأتي (الآخر) إلى مختبر الجزائر ليخرج منها كائناً خلاقاً وقابلاً للخلود، فيما يحدث العكس، حيث يخرج الجزائري من بلاده ليحقق شهرته ومكانته وإبداعه بل خلوده في مكان آخر، يبدو أحياناً بمثابة منفى للذات من جحيم الوطن وضيقه، كمحمد أركون وآسيا جبار وأحلام مستغانمي ومالك بن نبي ورشيد بوجدرة وصولاً إلى مطرب الراي الشاب خالد إلى آخر قائمة المحلّقين في السماوات البعيدة، وكأن الجزائر مجرد قبر لمن يريد أن يُحدث تغييراً نوعياً في معادلة الحياة أو حتى على مستوى الذات.
اللازمة الكلامية لإذابة الجليد مع (الآخر) بالنسبة للجزائري هي النكتة، إذ لا يمكن أن تتحدث مع أحد أولئك الذين تشبه وجوههم تضاريس جبالهم وكأنها مقدودة منها، بدون أن يفتح أساريرك بطرفة سياسية في الغالب، ولكن ذلك الانبساط الظاهري لا يعني أنه قد تخفف كلياً من قلقه الأصيل، إذ يشبه الأمر على وجه الدقة صرخات الابتهاج التي يطلقها الجزائريون بمجرد رؤية منتخبهم الوطني لكرة القدم لحظة دخولهم ككتلة بشرية متماسكة، ثم الخفوت الذي ينم عن خوف مشوب بالقلق بمجرد تبعثر اللاعبين في الملعب وتفرقهم في مراكزهم، وهذه هي أيضاً طريقتهم في سرد تاريخ الحروب التي دارت بين الأقاليم، وصراع العرب البربر، وربما لهذا السبب بالتحديد يريدون الإبقاء – نفسياً وضمنياً – على المحتل كعدو لضمان وحدتهم المهددة بالكثير من الأوهام.
الجزائر بلد آخذ في التعافي من الاستعمار والأصولية ومن المعالجات الخاطئة لفتنة الأمازيغية المعروفة في (منطقة القبائل) التي كانت وما زالت جرحاً على درجة من الحساسية، وبمقدورك تخيّل شكل ومضمون الذات التي كشفت أضاليل الفرانكفونية، وصدت ثقافة عذاب القبر انتصاراً لمعنى الحياة، كما لا يمكنك إلا الاندهاش أمام عبقرية مزجهم العجيب بين الأصالة والحداثة، حيث يمكن أن ترى كل ذلك مترجماً على الأرض في صور المحافظة حد التزمت، مقابل تمظهرات التطرف الليبرالي حد الانفلات. يحدثونك عن خمسة وثلاثين كيلومترا من السيارات المتراصة خلف بعضها، مكتظة بكائنات جاءت متعطشة لسماع ماجدة الرومي في لحظة من لحظات التوتر إبّان المواجهات الحادة المعروفة، يوم كان (باب الواد) خبراً يومياً يختصر المنتج الجزائري في العنف والتطرف، مقابل الآلاف الذين احتشدوا للترحيب بعائض القرني في لحظة من لحظات الاسترخاء، إذ لم يعد (حي القصبة) مسرحاً للعروض الدموية اليومية الصاخبة، بقدر ما عاد إلى طبيعته كحي شعبي، يجتذب السياج بمزيج عمارته التركية الفرنسية، بل ان الجزائر كله صار مزاراً يومياً لوفود ثقافية وإعلامية، أو هذا ما تشي به تلك الانتباهة التي ترقى إلى مستوى الاستراتيجية المرسومة بدراية وعناية، بما في ذلك دعوة الإعلامية خديجة بن قنة لأول مرة، حيث تستضاف في بلدها الجزائر بدعوة رسمية بعد خمسة عشر عاما من التحليق في فضاء إعلامي خارج الجزائر، كما أفصحت عن ذلك بامتنان واستبشار في ندوة مصغرّة حول المنتج الثقافي الجزائري وإمكانيات تصديره، جمعتنا بها في جريدة الشروق، بالإضافة إلى شبوب بوطالب، الإعلامي في جريدة العرب القطرية، الذي كان بمثابة مرشدنا الروحي ودليلنا (الجيو- والجغرا- سياسي).
هكذا تفتح الجزائر ذراعيها بمنتهى الاتساع ليس لأبنائها وحسب، بل لكل من يستشعر في ذاته قدرة أو إمكانية للإسهام في تشكيل صيرورة وصورة الجزائر الجديدة داخل الأزمنة الحديثة، كما يلاحظ في الحداثة المعمارية الآخذة في تغيير ملامح المدينة ببطء، وكما يُلاحظ أيضاً في الحداثة الساطية على أجساد شباب وشابات الجزائر، التي تنحتهم وفق مرجعيات الموضة وخطاب الموديلات العصرانية، وكل تلك الهسهسات تمر عبر مضائق حرجة لتشكيل هوية ما زالت قلقة ومشوشة، وقد صارت في هذه اللحظة من لحظات الانتباه أميّل إلى فكرة مد الجسور إلى الإنسان والمعين العربي، وترجيح الخيار العروبي الإسلامي في جانب من أهم مكوناتها المادية واللامادية، وكأنها عودة تحديثية للإطار الذي رسم معالمه الشيخ عبدالحميد بن باديس في بيت الشعر الشهير (شعب الجزائر مسلم…وإلى العروبة ينتسب) مع التأكيد على إيجاد مسامات وروافد تسمح لتلك الهوية بالتفاعل مع الآخر على قاعدة التضايف، بمعنى تفضيل استضافة كاظم الساهر عوضاً عن ازنافور – مثلاً – كما شرح بن تركي لخضر مدير الديوان الوطني للثقافة والإعلام – ذات محاورة بينية – صيرورة التحوّل في المزاج العام، وانقلاب الدلالات الشعورية والمفهومية، وما يقابل ذلك التدحرج نحو البدائل الثقافية المتحجرة من استجابة رسمية معزّزة بفائض من الآمال، وبتصور ثقافي إعلامي على درجة من المرونة والتطلع، فهم يغضون الطرف مثلاً عن نزق شاعر أصرّ على أن ينشر سراويله المنصّصة بمنتهى الفجاجة بين علمي فلسطين والجزائر وعلى خلفية مزدانة بجلال شعار مناسبة القدس في ضمير الشعر العربي، كما يتفهمون أيضاً مقاطعة بعض الشعراء للمنبر احتجاجاً على هفوات في التنظيم، أو نتيجة اعتقاد ذاتي راسخ بالمفاضلة تجاه أقرانهم من الشعراء، حفاظاً على قدسية قيمتي (الشعر والقدس) كما يبدو هذا الأمل مرسوماً على وجوه الطاقم المثابر (نصيرة وسمير ونورة وخيرة وآخرين) الذين قرروا مخاصمة النوم طوال الشهور الماضية والقادمة أيضاً فالجزائر ورشة مهرجانات وملتقيات مفتوحة ولا يراد لها أن تهدأ، لتبقى مهمة وصول الكتاب العربي، والتأكيد على اتفاقيات تعاون ثقافي شعبي ورسمي مع الفاعليات الثقافية العربية أمراً ملحاً، لكي لا تكون هذه الهبّة مجرد كرنفالات وقتية.
الجزائريون صدورهم واسعة، وقلوبهم كبيرة بحجم عقولهم، ورؤوسهم الحامية ليست صغيرة كما أهانهم زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي موريس توريز بنعرة عنصرية، ليبرر لبلاده احتلالهم آنذاك، ولذلك لم يغضبوا عندما واجهناهم متسائلين عن سر غلبة الشعر الكلاسيكي الأفقي في معالجاته وموضوعاته ومعانيه، وعدم وجود أسماء شعرية جزائرية ذات قيمة في المشهد الشعري العربي، وعن طغيان النقد المدرسي كمعادِلات روحية وموضوعية لهوية مذعورة وخائفة من التقدم داخل لحظة زمنية متسارعة، تماماً كما لم تتبرّم أسرة تحرير الشروق اليومي عندما كاشفناهم، في ذات الندوة التي أدارها نائب رئيس التحرير مصطفى فرحات بكفاءة، متسائلين عن سر برود الإعلام الثقافي الجزائري، بقدر ما صادقوا على استنتاجنا وملاحظاتنا، مع وعد بتغيير قريب يتم من خلاله الإفصاح عن الوجه الحقيقي لجزائر ما بعد الانفتاح، والسبب كما يبدو، يكمن في الرغبة العميقة عند الجزائري لرؤية ذاته في مرآة الآخر، وفي سعيه الجاد للخروج من أزمة هويته المرتبكة، والوصول إلى حالة من حالات (الجزأرة) الأصيلة، بما تحتمله الذات الجزائرية الجديدة من قدرة ورغبة على الانفتاح والتصالح والتحضر والتواصل مع الآخر من منطلق التكافؤ، والانعتاق من جحيم الثنائيات الحادة التي يحترق بها في مناددته اليومية ضد مخلفات الأصولية والاستعمار، كما يؤكد هذا المنحى المعقّد علي فضيل، المدير العام لجريدة الشروق الذي يجمع بين رعايته لزمرة من الشباب والشابات المنذورين لمقاومة لوبي فرانكفوني عنيد، وبين رعايته الإعلامية الحصرية للمنتخب الوطني الجزائري لكرة القدم، الذي يعتبر محل إجماع وطني، حيث بات الجزائري المعروف بعلاقته الملتبسة مع الزمن حد انعدام الإحساس به، يضبط الأيام القادمة من حياته على السابع من جوان، يوم منازلتهم الكبرى في مواجهة المنتخب المصري للتأهل للمونديال، وحيث بدأت ساعاتهم تدق على إيقاع دمعات مدربهم الوطني رابح سعدان، فكل شيء صار يؤرخ بما قبل وما بعد هذا المفصل. لم يصدق الإنسان العربي أن الجزائر بلد عربي يحمل خصائص العروبة إلا بعد أن سمع بأول انقلاب، حيث انخدشت الصورة الرومانسية للثورة الجزائرية الكبرى، التي موضعت الجزائر بإباء أهلها وتضحياتهم خارج تصنيفات الخراب العربي. ولكن، ترى ما الذي يحتاجه المثقفون أو الإعلاميون العرب اليوم ليصدقوا أن الجزائر بلد عربي فيه ما هو أجمل وأجدى من أخبار الزلازل والتطرف!؟ وكم يحتاج هذا البلد من الأدلة الجغرافية والتاريخية، ومن البراهين الروحية والثقافية ليقنع الآخر العربي بضرورة استكمال ما بدأه عبدالناصر من مسيرة التعريب المجهضة!؟ ففي حلوق الجزائرين استفهام عالق، أشبه ما يكون بالغصة التي اختنق بها مالك حداد في عبارته الشهيرة، وهي لسان حال كل الجزائرين (إن الفرنسية لمنفاي).